بعدما هدد أرزاق الصيادين ... كائن أزرق يُغير حياة تونس
تعرضت تونس لغزو كائن جاء إلى سواحلها من مسافات بعيدة عبر قناة السويس وعبر مضيق جبل طارق، لكن أهل تونس لم يستسلموا فحولوا السرطان الأزرق الوافد من عدو إلى صديق وباتوا يصدرونه إلى مختلف دول العالم
"كنت أشعر بالحزن حينما يعود زوجي خائباً بعد رحلة صيد طويلة، فشباكه ممزقة وفارغة، كما أن يديه محترقة ومجروحة، كل ذلك بسبب كائن صغير قلب حياة جزيرتنا رأساً على عقب"، بهذه الكلمات تحدثت سونيا عز الدين من جزيرة قرقنة التونسية.
سونيا كانت تقصد بكلامها السرطان الأزرق، الذي وفد إلى البحر المتوسط قادماً من مسافات بعيدة، كما يشرح نادر بن الحاج حميدة، الباحث بالمعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار بصفاقس، موضحاً أنه يوجد نوعين لهذه السرطانات الغازية الأول (portunus segnis) والثاني (callinectes sapidus).
ويقول الخبير التونسي: "جاء النوع الأول من المحيط الهندي عبر قناة السويس، وكانت بداية ظهوره في ۲۰۱٤، واكتسح الكثير من المناطق، وهو يملك شراهة كبيرة، أما النوع الثاني فهو أمريكي، وصل عبر مضيق جبل طارق من المحيط الأطلسي إلى البحر الابيض المتوسط، وكان ظهوره الأول في ۲۰۱۹ بسواحل جزيرة قرقنة، ثم انتشر بشدة في المنطقة الشمالية للبلاد".
ومن جانبها، توضح آمال المبروك باكير مؤسسة جمعية صحة وبيئة وسفيرة التحكم في الطاقة والبيئة، أن "هذه السرطانات غزت قرقنة على شكل جحافل، ملتهمة كل ما يعترضها، ومدمرة الثروة السمكية في الجزيرة، الأمر الذي أقلق البحارة الصغار".
لقب التوانسة هذا السرطان بـ"داعش" كونه يأكل كل شيء في طريقه، مسبباً أزمة لسونيا وغيرها من التونسيات، فأزواجهن فقدوا أرزاقهم، وباتوا يمضون الساعات الطول في البحر دون فائدة، فشباكهم ممتلئة بالسرطان الأزرق، الأمر الذي كان يغضبهم، فيكسرون هذه السرطانات أو يرمونها ثانية في البحر، لكنهم اكتشفوا فائدة جديدة له لم يكونوا يعلمون بها، فتغيرت حياتهم وحياة منطقتهم بأكملها.
ويوضح فتحي بلحاج، وهو خبير في التنمية المحلية في تونس: "خلال جلسات مع جمعية الشبان والعلم، اطلعت على مشاكل الصيادين ورصدت أيديهم الممتلئة بالدم، خلال محاولاتهم لتخليص السرطان من شباكهم، كما استمعت لشكواهم من قلة الرزق، وتبادلنا الآراء بحضور خبراء من معهد علوم وتكنولوجيا البحار في صفاقس، حيث شرحوا للصيادين طبيعة هذه الكائنات الوافدة، وقدموا نماذج من تجارب دول أخرى كيف نجح سكانها في الاستفادة منه".
ومن هنا بدأ التحول، فتغيرت طريقة التعامل مع هذا السرطان، وبدأ المستثمرون يأتون للمنطقة، وفي الوقت نفسه نظمت السلطات التونسية بدعم من منظمة الفاو تدريبات للصيادين ضمن مشروع "تعزيز حوكمة مصايد الأسماك وتنميتها في تونس"، وأنشأت سنة ۲۰۱۹ مصنعاً لتجهيز السلطعون الأزرق وترويجه في السوق الآسيوية، واستثمر القطاع الخاص في السلطعون الأزرق أيضاً، مستقطباً العديد من الصيادين الذين باتت مهمتهم جمع السرطان الأزرق وتوريدها للمعمل بدلاً من رميها أو إتلافها، كما استقطب هؤلاء المستثمرون السيدات لتنظيف هذا الكائن وإخراج اللحم منه، ومن بين هذه النساء كانت سونيا التي عملت لثلاث سنوات في أحد المعامل، واكتسبت خبرة جيدة في التعامل مع السرطان الأزرق وتحويله لأطباق شهية لفتت نظر السيدة آمال فاقترحت عليها تأسيس مشروع خاص بها.
وبالفعل أسست سونيا أول شركة أهلية تديرها سيدات متخصصة بالسرطان الأزق، وأسمتها "خيرات قرقنة"، وتضم تسع سيدات يتشاركن مع أزواجهن في العمل، فالرجال يصيدون السرطانات الزرقاء، في حين تعمل النسوة على تجهيزها وتقديم منتجات عديدة منها، وهن يحلمن في تطوير مشروعهن أكثر، والحصول دعم يوفر لهن أدوات الإنتاج، وسبل تسويق المنتجات.
وتعلق آمال باكير على المشروع بالقول: " بعدما كان هذا السرطان مصدر قلق كبير للبحارة، صار مصدر مورد رزق للنساء من خلال تأسيس أول شركة نسائية للسلطعون الأزرق، ونأمل بتوفير التمويل لهن وتفعيل القوانين الداعمة لهذه الشركات الصغرى التي تحافظ على البيئة"، وتضيف: "أصبح السلطعون الأزرق من أطباق الأكل التونسية، بعدما كان غير مألوف بالنسبة لهم".
الاستثمار الكبير للسرطان الأزرق، لم يكن بدون آثار سلبية، خاصة مع ازدهار هذا العمل الذي بات يضم ۳۰ معملاً، ويحقق عوائد جيدة لتونس، بلغت عام ۲۰۲۱ ۷٥ مليون دينار، فالمعامل تستخدم لحم السرطان الذي يشكل من ۱٥-۱۰% فقط من هذا الكائن، وبالتالي تُرمى بقية الأجزاء في القمامة، مسببة أزمة بيئية.
التفت الشاب التونسي أنيس بن غالية إلى نقطة التلوث هذه، وهو رائد أعمال كان يعمل على تصدير السرطان الأزرق من تونس إلى دول العالم، وفكر في طريقة لاستخدم مخلفات السرطان بشكل جيد دون إيذاء البيئة، وبعد البحث والتقصي اكتشف أن هذه الأجزاء تضم مادة اسمها كيتين، ومنها يمكن الحصول على كيتوسان، وهو بوليمر طبيعي ذو خصائص مضادة للميكروبات وقابل للتحلل الحيوي، ويملك استخدامات كثيرة على حد قوله.
وشرح أنيس، بأنه يمكن استخدام الكيتوسان في الزراعة، كمنشطات حيوية طبيعية تساعد على تعزيز نمو النباتات وزيادة مقاومتها، مما يقلل الحاجة إلى المبيدات والأسمدة الكيميائية، كما يمكن استخدامه في حفظ الأغذية، فيُطيل عمر الأطعمة الطازجة، وبالتالي يحد من التلوث البيئي الناتج عن المواد الحافظة الكيميائية.
وهنا أسس أنيس بالتعاون مع صديق له شركة يصفها بأنها تلتزم بتعزيز الاقتصاد الدائري من خلال الابتكار البيئي، مهمتها تحويل نفايات السلطعون الأزرق إلى منتجات صديقة للبيئة تُستخدم في عدة مجالات.
ويعمل اليوم أنيس على تطوير عمله أكثر، إذ تُظهر منتجاته تطبيقات واعدة في الرعاية الصحية، حيث يمكن استخدامها في تغطية الجروح وعلاجها بفضل خصائصها المضادة للجراثيم وقدرتها على التئام الأنسجة، وفي الوقت نفسه تعمل سونيا على ابتكار أصناف جديدة، والترويج لمنتجاتها كي تصبح طبقاً رئيسياً على مواد كل التونسيين.
الأكثر شعبية
عندما تجتمع خبرات أسلافنا القدماء مع المعرفة الحديثة .. نصبح شقفة من الطبيعة
إذا لم تشعر بالانتماء للأرض، عليك أن تشعر بالانتماء للناس .. فالمناخ مسألة إنسانية
عزبة الزبالين.. كيف يكون حي لجمع القمامة هو ذاته منبع للحفاظ على البيئة؟
تقدم منصة ذا كلايمت ترايب قصصًا حول التنوع والحفاظ عليه، والاقتصاد الدائري، والغذاء والماء و مدى ارتباطهم بالبيئة.
اشترك
احصل على أحدث القصص الملهمة للعمل المناخي حول العالم مباشرة في بريدك الوارد.