حين تختلط الذكريات بمشاهد التلوث البيئي
لقاء مع الناشط البيئي عمار عصام والمهندس البيئي حسين علي عبدالله ليحكوا لنا عن المدينة التي تختنق ببطء

حين نتحدث عن الأدب والريادة الشعرية والحياة والعلوم والتنوع في العراق، تقف في المقدمة مدينة البصرة التي تقع في جنوبها، فهي ميناءً يستقبل ويودع يوميًا آلاف الجنسيات الأجنبية، موطن للثقافات وللاختلاف، فيها ولد الفلاسفة والمفكرون والشعراء والكتاب، حيث درج في أزقتها الشاعر أبو نواس، وفيها شبَّ بين حاراتها القديمة الجاحظ.
وأنجبت عالم الفيزياء الحسن بن الهيثم، والزاهد العالم الحسن البصري، لديها شط العرب الذي نتج من التقاء النهرين العظيمين دجلة والفرات، وكانت من المراكز الرئيسية لأنواع مختلفة للزراعة، وبها شارع الفراهيدي متنفس الثقافة لسكان البصرة.
ومجموعة من البيوت القديمة تعرف محليًا بـ "الشناشيل" البصرية، منفردة بهوية عمارتها الإٍسلامية ودقة تفاصيل زخارفها التي أبدعها الحرفيين، فكما يقولون إذا كان العراق جمجمة العرب فقطعًا ستكون البصرة هي العقل الموجود داخل هذه الجمجمة.
ومع امتلاكها كل هذا الجمال فهي تمتلك حقول نفط تفتك بأهلها وجيرانها، والآن أكثر من مليون مواطن يختنق ويتألم ويموت ببطء شديد.
وفي ظل وجود مبادرات تنادي بتحقيق المساواة ومنع العنصرية البيئية التي توجه على مواطني البصرة، يعيش الناس تحت وطأة التلوث البيئي وتلوث الهواء منذ سنوات بعيدة، والذي تحول إلى خطر يومي يهدد حياتهم مع كل إشراقة صباح.
والآن لا صوت يعلو فوق صوت صاحب المعاناة الحقيقة، تحدثنا مع مواطنين وفي نفس الوقت كانوا خبراء لأنهم عاشوا المعاناة وقرروا أن تصبح المشاكل البيئية ضمن اهتماماتهم الأولى، بعد ما لمسوها مرارتها ممن حولهم.

نبدأها مع عمار عصام من مواليد شمال البصرة، يعمل حاليًا موظف في دائرة ماء البصرة، ولكنه قرر أن يصبح ناشطًا في البيئة والمناخ لربما ينقذ ما يستطيع إنقاذه سواء من خلال التوعية أو الإغاثة.
يحكي في البداية عن ذكريات طفولته في البصرة ويقول" تتجلى صور طفولتي في مدينة البصرة كلوحة فنية، كنت أتجول بين الأزقة الضيقة والأسواق وأستنشق عبير البهارات والتوابل، كنت أحب أن أرافق جدتي في رحلات التسوق، وأراقب الباعة وهم يروجون لبضائعهم بأصوات عالية، وبعدها أذهب لمنزل جدي ليسرد لنا الحكايات الشعبية".

ويكمل " كانت الطبيعة في منطقتي خضراء وجميلة، كنت أعيش في بيئة مليئة بالحيوانات والطيور، لكن مع مرور الوقت، بدأت أشهد تغييرات كبيرة، عند ذهابي المدرسة كنت أشاهد شعلات النار تخرج من الحقل النفطي".
فأدرك عمار عصام عندما كان في الصف الثالث الابتدائي أن الهواء أصبح أقل نقاء والسيارات والصناعات تنتج كميات هائلة من الانبعاثات، بدأ يشعر بالاختناق وألم في الحلق، كانت هذه أول مرة يدرك فيها تأثير التلوث البيئي على الصحة.
مع مرور السنوات، ازداد التلوث، النفايات الصلبة والسيول السوداء من المصانع بدأت تلوث الأنهار والبحيرات، الحيوانات والطيور التي كانت تعيش في منطقتهم بدأت تختفي، كانت هذه المشاهد مؤلمة بالنسبة له.
بدأ الربو والالتهاب يؤثران على صحته ويشعر بالعجز عن القيام بالأنشطة التي كان يحبها، ولكن لم يكن فقط الأمراض الصدرية هي التأثير الصحي الأسوأ، فيحكي عمار عصام عن الشاب علي حسين جلود الذي توفي قبل أشهر في سن الـ۲۱ جراء إصابته بسرطان الدم.
ويقول "يبعد منزل حسين الذي يعيش فيه مع زوجته وأحد أبنائه ألفين وخمسمائة متر فقط عن حقل الرميلة النفطي، السبب الرئيسي لإصابة ابنه علي وكثيرين غيره في منطقتنا بالسرطان هو الغاز المحروق الذي ينبعث من حقل الرميلة ويؤدي إلى تلوث الهواء، وذلك حسبما سمع الأب حسين جلود من الأطباء الذين كانوا يعالجون ابنه المتوفي".
ويكمل "بحسب حسين، فإنهم يعالجون مرضاهم في مستشفيات خاصة وعلى نفقتهم الخاصة، وتلقى ابنه ۱۲ جلسة علاجية خلال أربع سنوات كلفت الواحدة منها أكثر من مليون دينار"، ومع هذه القصة اختلطت ذكريات طفولة عمار عصام بمشاهد التلوث البيئي والمرض والفراق.
ومن الناشط البيئي عمار عصام للمهندس البيئي حسين علي عبدالله الذي يعمل في دائرة صحة البصرة، يتذكر أيامه في البصرة بلعبه بقارورة المياه والتي كان ينظم بها بطولات ودية، قرر هو الآخر أن يتنفس بحرية في مدينته من خلال مبادرات أهلية وخاصة.
يشرح لنا حسين التطور الزمني للأزمة في أكثر من طور ويقول "الطور الأول (۱۹۲۰-۱۹٦۰) بدأ من استغلال الموارد الطبيعية (النفط والمواد الأولية) دون مراعاة البيئة، وإنشاء مصافي التكرير ومشاريع صناعية دون معايير بيئية".

"الطور الثاني (۱۹٦۰-۱۹۹۰) توسع صناعة النفط والصناعات الثقيلة، زيادة الانبعاثات الغازية وتلوث المياه، وعدم وجود رقابة بيئية فعالة، بداية تدمير الغابات والمناطق الخضراء، والطور الثالث (۱۹۹۰-۲۰۰۳) حرب الخليج وتدمير البنية التحتية، الحصار الاقتصادي وعدم وجود تمويل للبيئة، زيادة التلوث بسبب الدمار، هجرة السكان من المناطق الريفية إلى المدن".
وختم "الطور الرابع (۲۰۰۳-الآن) الفساد في الإدارة وعدم توفير التمويل، عدم وجود توعية بيئية كافية"
والنتيجة كانت وصول المدينة لأرقام مخيفة من التلوث والأمراض فيذكرها لنا " ۸۰% من الهواء في البصرة ملوث، ۷۰% من مياه دجلة ملوثة، ۳۰% من الأمراض في البصرة ترتبط بالبيئة، ٥۰% من الغابات في البصرة قد تم تدميرها، ۱۰% من السكان يعانون من أمراض التنفس".
البصرة ذات ثقافة وأدب عريق وذكريات لأصحابها، ولكن كل هذا اختلط بمشاهد تلوث كونها قاعدة صناعية كبيرة فضلاً عن وجود المواني النفطية مثل البكر والعميق.
من ضمن الحلول التي تم طرحها خلال اللقاء معظمها ما ينادي بها المنظمات، وننادي بها يوميًا في أي دولة قبل أن تقع فيما وقعت فيه البصرة.
تحسين البنية التحتية وترميم محطات معالجة المياه والصرف الصحي، زيادة الوعي البيئي، تطوير السياسات البيئية، دعم البحث العلمي، استخدام الطاقات المتجددة، إعادة التدوير، زراعة الأشجار، وإلزام شركات النفط على الالتزام بالمعايير البيئية.
وإذا نظرت على الصورة من الخارج ستجد كل مبادرة وهدف بيئي وصاحب قصة نكتب عنه هنا يسعى لتطبيق كل هذه الحلول، وهذا ما يحاول أيضَا أن يفعله أهالي البصرة من خلال مبادرتهم الشخصية ومبادرات أهلية خوفًا من أن تختلط ذكرياتهم بالتلوث البيئي.
مستبشرين بأسطورة حكايات ألف ليلة وليلة الشعبية، التي تقول إن بحارًا بغداديًا اسمه سندباد انطلق من البصرة ليجوب العالم، ونجا من مصاعب وأهوال عدة، وسينجون أهل البصرة كما نجا سندباد.
الأكثر شعبية
عندما تجتمع خبرات أسلافنا القدماء مع المعرفة الحديثة .. نصبح شقفة من الطبيعة
إذا لم تشعر بالانتماء للأرض، عليك أن تشعر بالانتماء للناس .. فالمناخ مسألة إنسانية
عزبة الزبالين.. كيف يكون حي لجمع القمامة هو ذاته منبع للحفاظ على البيئة؟
تقدم منصة ذا كلايمت ترايب قصصًا حول التنوع والحفاظ عليه، والاقتصاد الدائري، والغذاء والماء و مدى ارتباطهم بالبيئة.
اشترك
احصل على أحدث القصص الملهمة للعمل المناخي حول العالم مباشرة في بريدك الوارد.