سعوا لإحياء التراث والحفاظ على استدامته
لقاء مع غواص وصياد لؤلؤ، ورئيس وحدة مركز لؤلؤ أبو ظبي، لمعرفة كيف حاولوا إحياء التراث والحفاظ على استدامته
محارة قابعة في أعماق البحار بدون سابق إنذار يدخل طفيلي غريب غير مرغوب فيه داخلها في مكان حساس يسبب لها إزعاجًا ويهدد حياتها، لتبدأ المحارة في الدفاع عن نفسها وتقوم بعمل كيس هلامي حول الطفيلي، تحبسه ومن ثم تبدأ في فرز مادة كربونات الكالسيوم، ونتيجة لهذا الكيس الهلامي يتكون اللؤلؤ داخل المحارة، أي يتكون نتيجة دفاع مناعي من المحارة عن الدخيل الذي سبب لها أذى.
ومن أجل الحصول على هذا اللؤلؤ من المحار جاء الصيادون والغواصون وتحولت القصة لمهنة شعبية أساسية يتّكل عليها الأجداد لكسب الرزق باعتباره النشاط الاقتصادي الرئيسي في دول الخليج قديمًا رغم كونها كانت مهنة محفوفة بالمخاطر.
وظل الخليج العربي حتى اكتشاف النفط، الذي تسبب بمرور الوقت في اندثار المهنة، وطبقوا المثل الشعبي وقتها الذي يقول "وش لك في البحر وأهواله ورزق الله على السيف" أي أن ظهور البترول جعلهم يتركوا مخاطر الغوص والصيد على اللؤلؤ، ولكن الآن هناك من حاول إحياؤه مجددًا وحافظ على استدامته في طرق الحصول عليه سواء من الغوص أو الصيد أو حتى عن طريق استزراعه وإحياء استدامة الثقافة.
فنبدأ رحلة اللؤلؤ مع القطري محمد السادة غواص لؤلؤ طبيعي، سحره الخليج العربي وجعله يستمتع بالغوص فيه عن أي منطقة أخرى، في البداية كان الغوص مجرد هواية ولكن والده هو من دفعه لاصطياد المحار والبحث عن اللؤلؤ ليرث مهنة عمه وجده، وما جذبه أكثر التشويق والإثارة التي تكون في رحلة البحث، ووصوله أحيانًا لمواقع الغوص القديمة وعثوره على أثر الغواصين القدماء ومراكبهم التي تعود لمئات السنين.
أخذ يتعلم تدريجيًا ممن سبقوه، وعرف آليه الغوص القديمة التي تعتمد على النجوم والرياح وهو الأن يعتمد في غوصه على الاستدامة ويحاول أن يكون صديقًا للبيئة، فالغوص في حد ذاته صديق للبيئة بالنسبة لأدواته المستخدمة حتى في طريقة الحصول على المحار.
فيوضح محمد السادة "استخدم ما يسمى بـ(الدهين) وهو الشباك الذي يوضع على الرقبة، كما أن المحار الموجود في الخليج العربي أكثره من فصيلة سريعة التكاثر ومهما آخذنا منه من عدد لا يؤثر على البيئة ولا يخل النظام، فهو من فصيلة تسمى بـ"بنكتادا رادياتا"، واستخراجه ليس له علاقة بإخلال النظام البيئي البحري لأن الأجداد هم من غاصو عليه وتعلمنا منهم الأسلوب".
ومن محمد السادة إلى الصياد الفلسطيني خالد أبو حصيرة، الذي نشأ حول البحر في غزة، كان لديه منذ الطفولة قناع ينزل به لرؤية أسراب السمك في المياه والأخطبوط وهو يلحق السلطعون ومناظر الشعاب المرجانية، طبيعة شدته وبيئة خصبة لم يعبث بها الانسان، ورث اصطياد المحار من والده الذي عاش لمدة ۳۰ عام في الامارات، حكى له عن الرحلات التي كان يذهبون لها بالشهور فيقول" صاحب المركب كان يأخذ الغواصين والصيادين ويترك راتب شهري لأسرهم ويا عالم يرجع آمن من المهمة ولا لأ، نظرًا لأن الأولين والأجداد كانوا يصطادون بدون ماسك على الوجه فقط بالعين المجردة، فكانت رحلة محفوفة بالمخاطر، فالمجهود الضخم الذي يبذل في الحصول على اللؤلؤ خلق للمهنة قيمة أكثر، فحاولت استكشف ما حاول والدي استكشافه من جمال القصص التي حكى عنها".
أما عن الاستدامة في اصطياد المحار والبحث عن اللؤلؤ فيوضح:"الاستدامة تتلخص في إننا نلقط الحبات التي تكون عرضها كف الأيد أي الحبات الكبيرة لأن عمر المحارة من ٤ إلى ۷ سنوات، فنختار الكبيرة المعمرة فقط التي تكون عرضها أربعة أصابع من كف الأيد، والتي نجدها أصغر لا نصطادها كما أن الالتقاط يتم باليدين، بمعنى آخر لا نأخذ الأخضر واليابس".
ويضيف عليه غواص آخر إماراتي اسمه عبد الله القصاب أخذ المهنة هو الآخر عن الأجداد ولليوم يعمل بما تعلمه منهم، ويمتلك متحف بحري فيه الأشياء المعاد تدويرها فيوضح بخصوص الاستدامة "المحارة كائن حي يعيش ويموت، وعند اصطياد المحار الكبير الذي على وشك الموت يكون احتمالية وجود لؤلؤ فيها أكثر، كما أن باصطياده نكون قد تركنا مساحة للمحار الصغير يعيش في هذا المكان، فهذه هي الاستدامة البحرية، بالإضافة أنه بعد الحصول على اللؤلؤ من المحار، لا نرمي المحارة بل نستخدم اللحم الذي يوجد بها لاصطياد السمك وبعض الناس تأكله، ويوجد بداخله مادة سوداء يستخدمها النساء ككحل".
ومن الطرق التقليدية إلى استزراع اللؤلؤ نفسه التي تحاول به الآن هيئة البيئة - أبو ظبي إحياء التراث واستدامة الثقافة، حيث تم إنشاء مركز لؤلؤ أبو ظبي بهدف استزراع المحار المحلي في مياه الخليج العربي بشكل مستدام لإنتاج لؤلؤ عالي الجودة.
وفي حديثنا مع عائشة حسن الحمادي رئيس وحدة مركز لؤلؤ أبو ظبي تحكي لنا عن آلية زراعته وفيم يختلف عن الطرق التقليدية فتقول " تضع هيئة البيئة جامعات صغار المحار في البحر، وهي عبارة عن حبال عائمة تستخدم لجمع بيض المحار المخصب، تترك جامعات المحار هذه في البحر لمدة عام، وبعد ذلك يتم جمع صغار المحار ونقلها إلى موقع الاستزراع لتستمر في النمو".
وتضيف" يتم إنماء صغار المحار في أنواع من الشباك لمدة عام آخر حتى تبلغ الحجم المناسب لعملية التلقيح، ببلوغ المحار عامين يكون قد أصبح جاهز، حيث يتم إدخال نواة مصنعة من صدفة مياه عذبة في المحار الحي، وبعد ذلك يتم إعادة المحار الملقح إلى موقع الاستزراع ليواصل النمو بشكل طبيعي في المياه النقية لمدة عامين لإنتاج لآلئ لا تتعرضً لأي نوع من المعالجة بعد الحصاد".
وفي الصيد والغوص يتم جمع المحار البري من قاع البحر، ويعتمد الأمر على الحظ، أما الاستزراع يتم إدخال نواة في المحار المزروع في بيئة مراقبة، ويكون الحصول على اللؤلؤ أكثر توقعًا، وفي أي شكل من أشكال الحصول على اللؤلؤ لا شك أن المحار عامل مشترك في كلا الطريقتين.
كما أن الاستزراع قادر على خلق بيئة مستدامة، حيث تسهم في حماية وتعزيز البيئة البحرية من خلال استخدام تقنيات استزراع مبتكرة، وتقلل التأثيرات السلبية على النظم البيئية الطبيعية بفضل التحكم في ظروف الاستزراع، كما يساعد المحار في تصفية المياه من العوالق، وتحسين جودة المياه مما يعزز من نقاء البيئة البحرية.
فإن تطلب اللؤلؤ، عليك بالغوص في عمق البحر فما على الشاطئ غيرالزبد" مقولة للشاعر جلال الدين الرومي تغزل فيها عن اللؤلؤ كما يحاول العرب دائمًا التغزل فيه، فهو بالنسبة لهم، جمال وثقافة وتاريخ يعود لآلاف السنين ومصدر للثروات ورمز للتضحيات والشقاء من أجل الحصول عليه من أيام رحلات الأولين، فالشعوب الأصلية في كل أنحاء العالم واظبت طوال السنين على جمع المحار بطريقة تكفل استدامتها، وعملت على صون النظم الإيكولوجية في الماضي، جمعتها علاقة فهم بهذه الأنواع البحرية والآن يحاول جميعنا الاقتداء بالتراث والأجداد بعد ما عاشوا هذه العلاقة الاستثنائية، فليس الأمر متوقف فقط على استدامة المحار بل استدامة الثقافة والمهنة نفسها التي نشأت والتمسك بها في أي من أشكال الحصول عليها.
الأكثر شعبية
عندما تجتمع خبرات أسلافنا القدماء مع المعرفة الحديثة .. نصبح شقفة من الطبيعة
إذا لم تشعر بالانتماء للأرض، عليك أن تشعر بالانتماء للناس .. فالمناخ مسألة إنسانية
عزبة الزبالين.. كيف يكون حي لجمع القمامة هو ذاته منبع للحفاظ على البيئة؟
تقدم منصة ذا كلايمت ترايب قصصًا حول التنوع والحفاظ عليه، والاقتصاد الدائري، والغذاء والماء و مدى ارتباطهم بالبيئة.
اشترك
احصل على أحدث القصص الملهمة للعمل المناخي حول العالم مباشرة في بريدك الوارد.