مهندس لبناني يحول مشكلة النفايات إلى نعمة
مهندس لبناني يحوّل النفايات إلى منتجات مبتكرة، مساهماً في تحقيق "صفر نفايات" في لبنان

في أيامه طفولته اعتاد التجوال في غابات لبنان الجميلة، من خلال فرق الكشاف التي اشترك بها، ووسط الأشجار تعلم كيف يحب الطبيعة ويشعر بالامتنان لها، وأيضاً الحزن من أبناء بلاده وهم يلوثون المكان، ومن أجمل الذكريات في حياته حينما عمل مع عدد من المتطوعين وجمعوا النفايات البلاستيكية بالقرب من أحد الأنهار، ثم صنعوا منها مقعد تركوه في المكان نفسه كي يكون رسالة لكل من يرمي نفايات بأضرار هذا الأمر، وكيف يمكن تدوير البلاستيك والاستفادة منه.
لم يتوقع المهندس اللبناني زياد أبي شاكر، أن تترك هذه الأمور تأثيراً عميقاً في حياته سيغير مجراها بالكامل، وأيضاً مجرى حياة الكثير من اللبنانيين، لأنه بعد تنقل بين عدة اقسام جامعية اكتشف أن شغفه سيكون بالبيئة وهندستها.

يخبرنا زياد أنه في بداية حياته الدراسية التحق بكلية الطب البشري، شأنه شأن غالبية الطلاب المتفوقين في المدارس، ولكنه اكتشف أنه أسوأ خيار اختاره، فلم يجد نفسه في عالم الأمراض والجراثيم والتشريح المرضي، ثم جاءت ظروف الحرب لصالحه إذ انتقلت العائلة إلى أميركا، وهناك كان بإمكانه الالتحاق بمجال مختلف فاختار الهندسة الكيميائية، وأيضاً لم يجد نفسها فيها، وأمضى فترة من التخبط إن كان سيكمل أم سيغير، وفي ذاك الوقت حضَر صفّاً في الهندسة البيئية، ويومها فقط عرف أي طريق سيأخذ، وإلى أين سيتجه، وهو ما كان بالفعل.

بدأت بدراسته الجديدة وأثناء ذلك طلب منه أحد مدرسيه البحث في تقنيّات التخمير؛ وبعد هذه التجربة أسّس نواة لشركته الخاصة عام ۱۹۹۱، وكان عمره حينها ۱۹ عاماً، وكان هدفها "جعل المجتمع صفر نفايات، وإعادة استخدامها، وربما هذا الحلم منطقياً في أميركا حيث أسس المجتمع هناك مثل هذه الثقافة، لكن الأمر في لبنان يحمل الكثير من الصعوبة، فكيف لشاب صغير تغيير عقلية مجتمع واختراق مافيات سيطرت لعقود على قطاع النفايات والمطامر، وخلفت حوالي ألف مكب عشوائي للنفايات، بحسب تقرير أصدرته وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي مطلع ۲۰۲۲، وتدهور بيئي كلفته أكثر من ۲.۳ مليار دولار سنوياً.
لكن الشاب المفعم بالحيوية والقادم من أميركا، كان اتخذ قراره بأنه سيمضي بما يخطط له، وسيعمل على تنفيذ فكرته ومساعدة بلده في استثمار أزمة النفايات، فأنشأ أول مصنع لمعالجة النفايات عن طريق التخمير السريع في قرية كفرصير الجنوبية، ونجح هذا المعمل في فرز ستة أطنان من المواد العضوية يومياً، ثم اتجهت أنظاره لمسلخ بيروت، وكان يعرف التلوث الذي يسببه هذا المكان، إذ كانت تُحرق العظام فيه وتُرمى بقايا الذبائح في النهر، فأنشأ معملاً تجريبياً لمعالجة هذه المشكلة ونجح فيها، ولم يكتف أبي شاكر وهو المدير التنفيذي لـ"سيدر إنفايرومنتل" ، بهذه الخطوات، وقرر ابتكار حل لموضوع أكياس النايلون التي طالما أرق علماء البيئة، ولطالما ردد الجميع أن كيس النايلون يحتاج لأربعمئة سنة كي يتحلل.

تعامل زياد مع هذه الأكياس بطريقة جديدة فهو لا يريد تحليلها، وإنما تحويلها لأشياء قابلة للبقاء وتقدم الفائدة في الوقت نفسه، وبعد تجارب ودراسات ابتكر وصفته الخاصة التي تقوم على جمع أكياس النايلون والبلاستيك وفرزها، ثم فرمها بمكنة خاصة في معمله فيخرج منها قطع بلاستيكية صغيرة، يتم خلطها مع بعض البعض ثم تُوضع في قوالب تتحول بعدها إلى ألواح تشبه الواح الخشب أو الحديد، ويقول: "كل واحد منه هذه الألواح يحتاج إلى ۳٦۰۰ كيس سوبرماركت، وهذه الألواح يمكنها البقاء لخمسمئة سنة"، ويلفت الرائد البيئي إلى أن الفكرة كانت في البداية الحصول على أحواض صلبة تستخدم للزراعة العمودية، ثم تطورت الأفكار ونتج عنها جدران وقواعد صلبة تُستخدم لتركيب ألواح الطاقة الشمسية عليها.
ويوضح زياد، بأنه في كل مشروع يقوم به يبحث عن الأشياء التي يمكن أن تقدم شيئاً للمجتمع، إذ لاحظ أن معظم اللبنانيين، وبسبب الأزمات الكهربائية توجهوا لتركيب ألواح الطاقة الشمسية على أسطح الأبنية، ويكانوا يحتاجون لذلك هيكل حديدي باهظ الثمن جدا، على حد قول زياد، لهذا ابتكر هياكله الخاصة من إعادة تدوير البلاستيك.

الحاجات بالنسبة لزياد ليست الأساس الوحيد لعمله، بل أيضاً الظروف الاستثنائية مثل المأساة التي عاشها لبنان بعد انفجار المرفأ، يومها عمت الفوضى في المكان المحيط ومن ضمن هذه الفوضى كمية هائلة من الزجاج المكسر، والذي كان سيتجه لمكبات النفايات بالتأكيد ويزيد من مشاكل البلد البيئية، ففكر زياد بمعالجة الأمر بطريقة مختلفة، فقرر جمع هذا الزجاج وترحيله إلى مصنعين في طرابلس من أجل إعادة تدويره وتحوليه إلى أوانٍ زجاجية، ويوضح، بأن التقديرات أشارت إلى أن حجم الزجاج المحطم بلغ نحو ۷ آلاف طن، وهي كمية كبيرة لا يحتملها أي مطمر للنفايات في لبنان، ويضيف: "غيّرنا مسار الزجاج من مكبات النفايات، وقدمناه بالمجان لمصانعنا المحلية».
ويلفت زياد إلى أن تجربته مع الزجاج ليست الأولى بعد انفجار المرفأ، إذ سبق وأطلق عام ۲۰۱۳ "مبادرة إعادة تدوير الزجاجات الخضراء في لبنان" ، التي حوَّلت فائض الزجاج إلى مصابيح وأكواب ومزهريات أنيقة وبأسعار معقولة.

يؤمن زياد بأن عقل رائد الأعمال لا يتوقف عن العمل، وهو ليس موظف بسيط محصور وقته بساعات معينة من العمل، بل على العكس لا يجد رائد الأعمال خاص البيئي وقتاً للراحة فتفكيره طيلة الوقت بالحلول والفرص، ولهذا ابتكر حلاً قدمه لبلده حينما سرقت أغطية المجارير، فهذه الأغطية أغرت اللصوص في ظل أزمة لبنان الاقتصادية، لنزعها والمتاجرة بها إذ يُباع الغطاء الواحد بـ ۱۰۰ دولار، فقرر زياد استبدال تلك الأغطية بأخرى بلاستيكية رخيصة الثمن ومفيدة بيئياً، وفي الوقت عينه لن يفكر اللصوص في سرقتها.
خلل السنوات السابقة، نجح لم يعد زياد شخصية مجهولة في لبنان، بل تحول لرمز بيئي يردد زياد باستمرار: "النفايات ليست مشكلة وإنما مورد"، ويؤكد أمام كل من يصادفه، أن الإنسان قادر على تخفيض نفاياته لتصبح صفر، ولهذا لا يكتفي بالقول بل يربطه بالعمل، وربما أبرز ما قام به تحويل أكياس النايلون (العنيدة بيئياً) إلى منتجات لا تخطر على البال تتمتع بالمتانة والقدرة على الصمود.
الأكثر شعبية
بين مفاهيم خاطئة وأنواع مهددة بالانقراض.. حياة أسماك القرش وتأثيرها على الوضع البيئي
تقدم منصة ذا كلايمت ترايب قصصًا حول التنوع والحفاظ عليه، والاقتصاد الدائري، والغذاء والماء و مدى ارتباطهم بالبيئة.
اشترك
احصل على أحدث القصص الملهمة للعمل المناخي حول العالم مباشرة في بريدك الوارد.