مُستَعمرَة جميلة.. تبتلع الأنهار وتفتك بالذكريات
زهرة تتعلق بها من الوهلة الأولى، ولكن قادرة على تخريب ما لم يقدر قاتل عليه، من خلال حديثنا مع مزارع وصياد ومهندس زراعي من سوريا علمنا ما تفعله تلك الزهرة الشيطانية الجميلة بمن حولها.
وكنا نستمتع بمنظر القوارب ونقضي أوقات ممتعة هناك، ولكن لم تعد موجودة تلك المناظر بسبب انتشار الزهرة، ومعها تراجعت حركة السياحة مما آثر على المطاعم والمسابح.. بيحز في نفسي حرماننا من جمال المنطقة.
هل الإنسان قادر على تغيير نظام بيئي بأكمله؟ هذا الاحتمال وارد من خلال تغيير البيئة المكانية، وربما مع الإهمال الزايد يصبح نفسه المكان غير صالح للكائنات الأساسية، وهذا ما حدث مع قدوم زهرة النيل، تلك الزهرة التي تذهلك من اللحظة الأولى بلون زهورها الأورجواني، وتتمنى اقتنائها في منزلك أو حتى تراها حولك للتمتع بجمالها، لكن خلف هذا الجمال جانب مأساوي يجعلك تعض أناملك حقًا بعد الحصول عليها، إذا شاهدت ما تفعله على سطح المياه وما ينتج عنه في تخريب النظام البيئي.
غزت بعض دول العالم، ووصلت مصر ثم للعراق وسوريا في وقت قريب، وبعض الروايات تقول أن هناك يد خفية في وصولها، ولكن قبل أن نقول ما الجرم الذي ارتكبه العنصر البشري، سنقول لكم ما فعلته الزهرة بنا، ولأن سوريا واحدة من أكثر المناطق المتضررة منها، تحدثنا مع أصحاب التجربة فلا صوت يعلو فوق صوت صاحب المعاناة.
باسل صخيل ابن سهل الغاب ريف محافظة حماة والتي تعتبر السلة الغذائية لسوريا، صياد أبًا عن جد، عاش طوال حياته بالمياه، ففي عرف الصيادين عندما تتم عامك السابع تبدأ في تعلم المهنة، باسل يخزن في ذاكرته ذكريات مع صحبة الصيادين وقعدات الشوي والشاي والحكاوي على النهر في الليل، ولكن كل هذه الذكريات تحولت لكابوس، بعد أن أثرت زهرة النيل على قوت يومه، وبعد ما كان يصل الرزق من السمك ٥۰ كيلو في الشتاء و۱٥ في الصيف، أصبحت تمر شهور دون اصطياد.
يحكي باسل عن معاناته ويقول "النبتة مكافحتها صعبة جدًا لأنها سريعة النمو تقوم بغلق وجه المياه بشكل عام لمساحة تصل لـ ۲۰۰۰متر مكعب، فيصبح من الصعب علينا الصيد بالقارب أو حتى بالشباك، وتمنع الأكسجين عن الأسماك مما يتسبب في موته"
باسل اجتهد مع بعض الشباب المتطوعين حتى يقوموا بإزالتها أو التخفيف من وجودها ولكن نموها كان أسرع مما كانوا يتخيلون وصار الوضع أصعب وأصعب ، باسل لم يترك الصيد ولكن يبحث عن مصدر رزق آخر لأنه لم يعد يقدر على حمل تبعاتها.
ومن باسل للمزارع أحمد العلي مزارع وصحفي في سهل الغاب، كان يبدأ عمله في الصباح في السقي والحراثة وجني المحصول، ويأخذ معه الكاميرا ليوثق كل اللحظات، أحمد يتذكر جيدًا وقت طفولته وذهابه الأرض مع أصحابه وتقضية اليوم كامل لعب وأكل من خير الأرض.
أحمد ترك أرضه والمنطقة بطلوع الروح كما قال، نزح منها بسبب الحرب وبعد انتشار الزهرة فيحكي أحمد" في إحدى المرات انتشرت زهرة النيل في قناة المياه التي نسقي يومها خرب المحصول، وبسببها انخفض منسوب مياه نهر العاصي بعد أن كانت تتميز المنطقة بكثافة البرك والينابيع وخصوبة أرضها ".
ونكمل معاناة أهل سوريا ولكن في منطقة أخرى يطلق عليها عروس نهر العاصي مع المهندس الزراعي خضر الخضر، يقوم بجولات إرشادية وشاهد على المعاناة في مدينة دركوش في محافظة إدلب، وطرفًا أخر نال من آذى الزهرة ولكن بشكل غير مباشر فيقول" دركوش كانت منطقة سياحة، مكان الاصطياف الوحيد في الشمال الغربي وكانت معظم المطاعم والمسابح موجودة على ضفاف الأنهار، وكنا نستمتع بمنظر القوارب ولكن لم تعد موجودة تلك المناظر بسبب الزهرة، ومعها تراجعت حركة السياحة مما آثر على المطاعم والمسابح.. بيحز في نفسي حرماننا من جمال المنطقة ".
حسب كلام خضر أن زهرة النيل نبات موسمي من فصيلة البونتديرية، يتكاثر بواسطة البذور والنباتات الخضرية الجديدة، سريع وكثيف النمو ويشكل مستعمرات قادرة على الاحتفاظ بحيويتها لمدة ۱٥ سنة، ويسبب نموها الغزير على سطح المياه إغلاق المجرى الأمر الذي يسبب فيضانًا لمياه النهر ويعيق وصول أشعة الشمس للحيوانات الأخرى، وللأسف حسب كلامه لا يوجد أساس علمي يمتلكونه للقضاء عليها ولا حتى المواد الكميائية.
خضر يرى ثلاثة احتمالات لدخول الزهرة على سوريا، إما كنبات زينة وهو احتمال ضعيف من وجهه نظره، أو نبات مجفف يتم زراعته لمياه التربة أو عن طريق مجرى الأنهار وهو احتمال مقبول.
وفي رواية أخرى للصياد باسل أنها جاءت عن طريق مزارع أسماك شاهد النبتة ربما في مصر أو العراق، وقع في حبها فأحضرها ووضعها في مزرعة السمك، ولكن بعد أن غطت له الحوض بسبب كثافتها تخلص منها وألقى بها في الأنهر ليعاني من بعده الأهالي لعقود، سحرته كما سحرت الخديوي توفيق فجلبها من مستنقعات بعيدة ليوطنها في قصوره كنبات زينة.
ولكن بغض النظر عن اختلاف الروايات لم نخفي دور "التأثير بشري المنشأ" الذي أضاف عنصر دخيل بدون دراسة جيدة سبب خلل أو اضطراب في البيئة وانقلب السحر على الساحر. فيقول الدكتور حسين جنيدي عضو هيئة تدريسية في المعهد العالي لبحوث البيئة جامعة تشرين وخبير معتمد في تقييم الاثر البيئي في الجمهورية العربية السورية, "إن النبات الذي نتكلم عنه نبات يعود بأصوله إلى البرازيل حيث مناطق الغابات المطيرة التي تتوفر فيها وبكثرة كافة عناصر التغذية لذلك فهي بحق جنة النباتات، بالطبع تكون النباتات في البيئات الطبيعية ضمن حالة توازن بيئي تساهم فيه كافة عناصر المنظومة البيئية وتكون العوامل الممرضة كالحشرات والفيروسات والتنوع الحيوي الغني عوامل أساسية في تشكيل آليات ضاغطة تحد من النمو السريع والانتشار الواسع لنوع من الأنواع على حساب الآخر، وذلك على عكس ما يحصل عندما يغزو كائنًا حيًا مناطق أخرى فإنه وعلى الغالب يهاجر بمفرده تاركاً وراءه أعداؤه في موطنه الأصلي، الأمر الذي يمكنه من أن يسود في المناطق التي يغزوها دون رادع ".
فغزت الزهرة بدون رادع خاصة عندما وجدت البيئات التي غزتها هشة سبق وأن أضعفتها النشاطات البشرية، فأتت الزهرة على بيئة خالية أو شبه خالية من التنوع الحيوي ذلك التنوع الذي يكون في الحالات الطبيعية مانعًا حقيقيًا وضامنًا لعيش الأنواع المحلية ومقاومًا لأي غزو بيولوجي.
ولم يكتفي الإنسان بإقحامها في بيئة غير مناسبة بل ساهم في نموها المطرد من خلال النشاطات الملوثة للبيئة فيقول جنيدي " فمثلُا عدم معالجة مياه الصرف المصروفة إلى البحر يقضي على الكثير من الأنواع المحلية وتصبح البيئة البحرية ملاذًا للكائنات الغازية".
هذا ما فعلته الإيد الخفية "العنصر البشري" في البيئة، والغريب أن المتسبب في دخولها، هو نفسه الذي يسارع الآن في وضع حلول ومبادرات للاستفادة منها، ولكن يبدو وأنه فات الأوان، وشيطان النيل الذي تم وضعه ضمن قائمة النباتات التي اجتاحت ويجب اغتيالها، سيلازمنا باقي حياتنا فالتغيرات المناخية ستعمل بدورها في انتشار النبتة أسرع من الإنسان، ليتعلم البشرية درسًا أن إدخال أي عنصر للبيئة أمر في غاية التعقيد ولا يجب أن يتم بشكل عبثي، حتى لا تأتينا زهرة أخرى.
الأكثر شعبية
بين مفاهيم خاطئة وأنواع مهددة بالانقراض.. حياة أسماك القرش وتأثيرها على الوضع البيئي
تقدم منصة ذا كلايمت ترايب قصصًا حول التنوع والحفاظ عليه، والاقتصاد الدائري، والغذاء والماء و مدى ارتباطهم بالبيئة.
اشترك
احصل على أحدث القصص الملهمة للعمل المناخي حول العالم مباشرة في بريدك الوارد.